الدكتوره فايزة حلمى تكتب , الساحرة والحكيم مجموعة مسرحيّة شديدة التميّز لصلاح شعير
الساحرة والحكيم مجموعة مسرحيّة شديدة التميّز
صلاح شعير يحافظ على صِبا المعاني, ويسقيها مِن أكسير روحه العاشقة للحياة، حيث الدهشة تتثاءب في سرير الحقيقة.
بقلم: د.فايزة حلمي
تلقي نظرة على أرْوقة المجموعة المسرحية “الساحرة والحكيم، والمكونة من خمسة نصوص للكاتب “صلاح شعير” والصادرة عن دار “يسطرون “للطباعة والنشر بالقاهرة، ليست هذه التجربة الأولى مع أعمال كاتبنا, وكما عَهِدته في إلتقاط عناوينه كلآليء مِن أصداف المحيطات, يلتقطها بمهارة خبير, ويحرص على تفرّد هذه العنْونة, وكأن لها في ذهنه مواصفات مُسبقة, فيسلّط راداره على معاني لغويّة بعيْنها دون غيرها تَفِي له ولنا بالهدف.
أول إنبهارة للضوء جاذبة للمُتلقي, وأول وعود مُبدعنا لمُتلقي عمله, أنْ سيكون بصحبتكم حكيم في عروضي المسرحية التي ستصاحبونها, مهما واجهتم فَسِحر الحِكمة يُلاحق تأثير الساحرة, يظلل كاتبنا خيمة حماية حتى لا تستأثر الساحرة بعقل القاريء, الكاتب مع سبق إصرار يترصّد لساحرته بالحَكيم, ويدعو القارىء للسِباَحة الآمِنة دونما حتى طوْق نَجاة على خِصْر عقله.
إعتاد مُبدعنا جَمْع الأضداد بِسِمات متشابهة في منطقة التلاقي, وهذا ما يُسمّى الإبداع البنائي, وهو ما يدعونا لقفزة الثقة مِن منصّة الإنتظار بكامل إطمئنان لأعماق مياة المجموعة, دونما تَخوُّف مِن الغرق بدوّامات المجهول , فالحَكيم يملك مِن سِحر العقل والخبرة, ما يطفىء به شعله مَخْبوءة بِدِثار حِكمَة .. مُزيّف للساحرة.
دلالة العنوان:
العنوان كان دعوة كاتبنا لقارئيه, أن أدخلوها بِسَلام, ما يُتيح للمتلقّين فَتْح أبواب الوقت دون حاجة لطرقة إستئذان, كان بُشْرَى لِسَكاكر العِيد التي تنتظر الذين سَيمْضون لآخر المَعْبَر, مرورا بمحطّات التزوّد بفاتحات الشهيّة, وصولا لِلطَبق الرئيسي الذي سيُطعِمه مُبدعنا لقارئيه, كأنّه يسكب عِطر الغواية, فيشعل فتيل اللهفة بعقولهم.
“الساحرة والحكيم” هي آخر مسرحية في المجموعة, التي أوْلَمْها مُبدعنا لقارئيه, وإختارها عنوانا لمجموعتة كأنه يَعِد كُلَ قاريء بالنهاية .. بِحَلْوَى العِيد, إنْ هو أنْهَى وَجْبته شهيّة الدلائل, ويجذبه لتنوّعها برائحة العناوين المُنْبِئة بدوام سخونة محتواها, بفضل نار إنضاجها الخافتة, التي يحتفظ بها كاتبنا أحبارا دافئة داخل بوتقة وجدانه وفِكْره.
عَنْوَنة تُحلّق بقارئها فوْق الغيْمات, تتوسد أحرفها سحابة ضوئية, تنثر زخّاتها نجمية الضياء .. فتُوُرِق أفكار المُتلقّي, ويزدهر روْض روحه, ويفتح أروقة وجدانه لتلقّي نسائم تحمل لرحى عقله, سَنابِل قَمْح يَطحَنها خبزا, يقتاته بدروبه العِجَاف, لذا يجد كاتبنا ..مُتلقيه ..مُنتظرا بعطش الإدراك.. لِفتْح السِتار.
الإهداء: ” لِكلِ عشّاق الأدب والمسرح”:
ما أشْمَله مِن إهداء, مُكتمل به بُعْد النوايا, رنينه يُنْبِيء بجهوزيّة سلسلة تثبيت أكبر جمْع مِن أسرى ماسَات الكَلِم الطيّب( الأدب والمسرح), في إنتظار غيْر مَلوُل , وقد بدأ بالأعَم ثم الأخَص, كأنه يَضمّهم بين جَناحَي الإبداع, ليَسْرِي بِهِم مُحلّقا على بُساط ترانيمه السحرية ليصافحوا شعاع الشمس الآيل للغُرُوب.
نص العَسَل والصبّار:
والآن دعونا في سكون يُناسِب ما ينتظرنا ونأمله من مُبدعنا, هانحن نسمع الدقّات المقدّسة؛ لأول نص مسرحي بالمجموعة، حيث لا يَمِلّ كاتبنا أبدا…لعبة الكلمات المُتضادة, التي ظاهرها التنافر وباطنها التوافق, فكلتاهما فيها شِفاء للناس, والعَسَل مِن رحيق الزهور التي أرْوَعها زهرة الصبّار.
لا يَمّل كاتِبنا مِن أن يملأ سِلال عقولنا بمقتنيات نستحضرها على مسارات الدروب, كثيفة الدلالات .. كبصمات وشميّة الأثر:
” المال هو كل شيء”, ” أمّا سِن القلم الجاد فهو يُقَطّر شقاء”, “الواقع كله أشواك”
يمضي الحوار مابين الصحفي وزميلته, كمباراة شخصية أكثر منها حوار عابر إعتيادي, نستطيع أن نرى ملامح التجربة بين طيّات الإنفعالات المُتعالية نبراتها, والتي تكاد تَصُم آذان الأوراق بصادح معانيها, وهي تتقافز فوق الأسطر إنفعالا صادرا من صحفي الإعلانات “زغلول”, وثباتا إنفعاليّا وثقة مِن صحفيّة بريد القرّاء “حبيبة”.
يحاول كاتبنا أن يكون الحوار سِجالا بين طرفين يقف كل منهما بأسلحة كلماته في مُواجهة الآخر, وكلاهما قد إرتدى دِرْع وِجْهة نَظرِه, في محاولة تُشارف شواطيء النجاح لتفكيك إزار وجهة النظر الأخرى, , لتجريد هذا الآخر مِن نظريّاته الباليّة الرثة, التى أذابتها متغيّرات الأيام ومُسْتجدّاتها, والكاتب يبدو خلف الستار ببراءة المتابعة, في حين أنه يلوّن كلماتهم بأفكاره, كإعتياده في إبداعاته, نجد كاتبنا يضع كلمات المشاعر الحالمة على أسِنّة أحرف نِساء رواياته:
“المشاعر الحقيقية لا تموت, سوف تظل تتدفّق كالنهر يروي القلوب القاحلة لتُثْمِر الحياة”
ويضع المعاني التي تحمل الماديّة الخالية مِن المشاعر على أسنة أحرف أبطاله الرجال:
” الحُب رغبة مكبوته متى تحرّرت, تَبَخّر معها كل الكلام المُنمّق”
ترانيم عازف الكلمات:
وهنا نـتسَاءل: هل أقوال الأبْطالِ وبصفة خاصة الرجال, تُمثل وِجهة نظر الكاتب الشخصيّة, لتكرار تداولها؟!!, ونبحث عن الإجابة , غيْر أنّه, تُمَثّل التناوم هروبا مِن البوْح عّصِيّ اليقظة الآنية, ولكن حين ينضج ضَوْء النهار بحرارة الشمس, وتتصايح أسراب يمامات الأحداث البَعْديّة, تُوُقِظ الحقيقة غفوتها, وتُفِكك طلاسم ألواح معابدها, لنسمع ترانيم عازف الكلمات, تعلو كعَبق المَباخرالمُغلِق طُرُقَات الأنفاس, بِحِكَم تتناثر حِمَما.. مِن براكين وَجَع القلوب, كَوَجْبة مَطْهُوّة بشَقَى المشاعر التي شاب صِباها.
وفي مواطن متقاربة في لوحاته, كثيرا ما نجد الكاتب يشاغب خيول الحواس بالحوار, يستنفـرها ويُلقي بعيدا سِرج الحذر.. ويرفع عنها لِجام المواربة, ويَلقِي بِكَفّ الشمس ..حِفنة ماء, كَسَرابٍ سَرْمَديّ المَدّى يرَتّق به فواصِل الطريق, الممتد بظل الأحلام المُكبّلة بقيود الواقع المُعاش, في مُحاولة تَحْفِيزها على تَخَطّي كل الحواحز دُوُن مُعوّقات, حتى أنّ شَهْرزاد لَمْ تَسْكت عَن الكلام غَيْر المُبَاح, لا في المَساء, ولا بَعْد إشْراقة الصَبَاح..
يحاول كاتبنا ..ألّا تَغْفو مِنْه المَشاعر الإنسانية لأبْطالِه, وهو بِسِفْرته لِسَرْد الأحداث, وينجح غالبا في محاولاته المُزدهرة على فروع المَشَاهِد, بفضل موالاته لها مِن قوارير وِجْدانه بأنْداء عُطورِه سَابقة التقطِير ” أريد أن أعود إلي نفسي بأي ثمن, أتوّق للخلاص مِن كل الآثام” .
ويبدع وهو يزيّن فراغ اللحظات بعناقيد فوّاحة بمعانيها, ” الماضي هو جذور الحاضر, والأشجار لا تستطيع أن تعيش بدون جذور ضاربة في أعماق الأرض, ونحن البشر جذورنا ضاربة في أعماق الأيام”.
ويميل مبدعنا لأن يغمس أصابع الحَكي مباشرة بآيس كريم المشاعر المُحلّقة بأرجوحتها الفضائية, غيْر راغب بوسيط, لِيُشْعِر المُتلقّي بسخونة الإنصهار الجليدي, في الحوار بين الزوجين, بسطاء المستوى المادي, لِيُعيد وَشْم النبضة الذهبية بتجاويف القلوب:” الحب نبتة إحساس .. تنمو وتزدهر ..على رَوْض القلوب النقيّة”.
المُتغيّرات في كلا الإتجاهين:
ثم تتّسع عدسات دهشتنا, حين نتابع خطوات الأبجديّة تنزلق لطريق بعض الثقوب الأخلاقية, بضمائر, طالت نسيجها آفات غير قابلة للرحيل, ” أنا لم أحب في حياتي أحدا سوى المال”, ” في أحايين كثيرة يكون الكلام عن الحب, هو الفخ الذي ينصبه الرجال حول حواء حتى تقع في المصيدة”, ” إنتزعتك منه لأقتل مشاعره وأحرق قلبه”.
يظهر أخيرا لب ثمرة العنوان” العسل والصبّار”, حين تَنْضو هدى عنها دثار الشراهة المادية, وتكتفي بأن تتشرنق بخيوط الحب الحريرية المَلْمس, حينئذ تشعر “كفراشة تطير فوق أغصان العسل, بعد أن كنت أتقلب بين أشواك الصبار”, ليست هي فقط التي قررت الإنسلاخ مِن رداء تطابق مع مسامها حتى وَشَم روحها الماديّة, فزميلها زغلول صحفي الإعلانات, قرر إغراق روحه المُلوّثة التي تنازل عنها للشيطان, في المياه الآسنة التي كان يسبح بها قَبْلا, وتَمَنّى على الله بَعْثه مِن جديد بروح ذات رداء نقي.
وأدار مُبدعنا عجلة المُتغيّرات في كلا الإتجاهين, حيث البطل النقي الذي أضاع حِلمه, وأطاح بحبيبته كالفراش المبثوث لتذْرُوها رياح الزمن, لبعض ما شاب أجنحتها مِن ألوان أخلاقية مُغايره لألوان فرشاته التي يلون بها حتى الهواء الدافق لرئتيه, الآن .. آتى الحرام على كرهه له ؟! آتاه سبيلا ..ليسترد شتات حبيبته المُبْعثَرة رفْضا؟! والتي بلحظتها..أدارت دفّة عقلها..إبحارا لِنقاء عالمه الذي غادره, وكان منها على قَيْد ..همسة.
وبهذا التغيير المُضَاد والمتزامن لكلاهما في الإتّجاه المُعاكِس لِمَا كانا عليه سابقا, طَمَعا في نقطة إلتقاء تاقا لها زَمَنا, فَسَبَح كلٌ مِنهما عَكْس تيار أخلاقياته وروحه وإعتياداته, فَتاهَت مِن خُطاهما الدروب, وكما كانا أصبحا؟! فقط كلُ مِنهما في مُواجهة الآخر وضده, في المعسكر المُعادي له, وليس معه في نَفْس جَبهته, فقط هى تَحوّلت إلى مَلاك, وكما قالت: “هو الملاك الذي تحوّل إلى شيطان”.
ما أروع النظريات ..التي يلتقطها الكاتب ببراعة مِن أصْداف الشواطيء ويُتقِن فَتْحَها وتقديمها, وَجْبة شَهيّة أنْضَجْها على بُخار القلوب المُحَترقة, ورغم أنها أمَامنا وبكثرة, لكنّنا فقط نَدْفنها عَميقا برمَال الأحداث, وخُطانا تتقافز صَوْب شواطيء تَحْمِلنا لِحدائق حَياتية تَلوُح بها عَناقيد الغوايَة التي تَرْجُونا ألّا نَعْفِيها, وحين نَهِم بِها..نُبْصِر الكَمِين, فنُسْرِع كفأر الحقول, لكن بعد أن تكون جُلودُنا قُدّت مِن ظهورِنا, ونعود بِخُفيّ المَرارة نمضي وئيدا, حاملين مشاعل التجربة نحرق بها شوائب أفكارنا الجافة, وبنورها نضيء مَمّرات جديدة.
الخبرات الحياتية ذات المذاقيْن:
لذا كاتبنا يُقدم لنا وَجْبة طازجة بِسخونِة التَجربة, مُفاديا إيّانا عَلقَمْها, كأن نظرياته الجديدة .. القديمة, كميلاد كل يوم, السهل الممتنع, إنه يمنحنا روعة وبهجة الطفولة, بهذا الكَم مِن مَواليد الرؤى والخبرات الحياتية ذات المذاقيْن, دونما حاجة مِنّا لإختبار قدرتنا على حَمْل وتوالد الأفكار تقليديا, أو حتى كَسْر المسارات المألوفة ومحاولة إخْصَاب زوايا العقول العَقِيمة, فالكاتب يقدم لنا حِفنة مكسّرات مقشورة, لكنها ليست للتسالي بل لسد ثغرات سلال العقول التي تعود فارغة مِن سوق المعرفة, يقدّمها مجانية كعربون تشجيعي لفتح ملفات الإنسانية.
مبدعنا على مسارات الفصول يُذيقنا شهد العسل, حتى أدَقّ بللوراته, ويَدْمغ بالقُبْح الصبّار رغم جمال وإبهار وندرة زَهْرَاته, وبالنهاية يَصْبِغ بالصِبَا حَقائق, شَابَت ضَفائِرعِطرها المَجْدُول بإمتداد بُحَيْرة المِعْرفة الجافة, لِعلّ شبابها يغوي عابرات الفضاء ..السحب الفيْضيّة, فتتوقف لتحظى بنظرة , تنصهر بها مزاليج بَوّابَات الطوفان العَطِر, فتفيِض فِكْرا.
كاتبنا المُبدع يحافظ على صِبا المعاني, ويُظِلّها في ربيع زهراتها, يسقيها مِن أكسير روحه العاشقة للحياة, والتي تطل مِن وراء سِتار المعاني والمواقف وأحرف الأبجدية التي تنصهر داخل شرايينة ليطوّعها كيفما شاء, لتصل لنا وبها مساحة مِن فضاء السياق, يُتيح لنا إكمال فراغاتها كلٌ كما تشتهي نفسه, إنه الكاتب المُغرَم بأبجدية الحياة.
فايزة حلمي ـ دكتوراه في علم النفس التربوي ـ مصر